من المجلة - الافتتاحية

مبدأ «الاتزان الاستراتيجى» و«قمة المستقبل»:
المنظور المصرى لتحقيق الأمن والتعاون الدولى

طباعة

دائمًا ما يؤكد الرئيس عبدالفتاح السيسى حماية الأمن القومى، واتباع سياسة خارجية متوازنة. من هنا، حدد سيادته أبرز أولويات العمل الوطنى خلال ولايته الجديدة، التى تتمثل فى: «أولوية حماية وصون أمن مصر القومى فى محيط إقليمى ودولى مضطرب، ومواصلة العمل على تعزيز العلاقات المتوازنة مع جميع الأطراف فى عالم جديد تتشكل ملامحه». لعل ذلك ما انعكس على برنامج عمل حكومة دولة رئيس الوزراء د. مصطفى مدبولى الجديدة، الذى أكد بدوره، فى بيان الحكومة أمام مجلس النواب: «أن هذه الحكومة الجديدة هى «حكومة تحديات»، ولذلك تضع الحكومة صَوْبَ أعيُنِها، خلال المرحلة المقبلة، تكليف السيد رئيس الجمهورية لها بالعمل على تحقيق عددٍ من الأهداف، على رأسها: قضايا الأمن القومى، وبناء الإنسان المصرى، والارتفاع بمستوى وعيه الثقافى والاجتماعى، والعمل على توفير متطلبات المواطن المصرى من الخدمات كافة، خاصة خدمات التعليم والصحة، ومواصلة مسار الإصلاح الاقتصادى، والاستمرار فى إكمال المشروعات والمبادرات التى بدأت مع مسيرة مصر التنموية فى السنوات الماضية، وبذل كلِّ الجهد لتقليل ارتفاع الأسعار والتضخم وضبط الأسواق، وذلك فى إطار تطوير شامل للأداء الاقتصادى للدولة فى جميع القطاعات.

الاستجابة المصرية لتحديات الأمن القومى

تتميز التحديات التى تهدد الأمن القومى المصرى فى الآونة الأخيرة بأنها ذات وجوه متعددة، يرتبط أولهــابحتمية إكمال مسيرة التنمية المستدامة التى بدأتها مصر منذ عشر سنوات، وبذلت فيها الدولة المصرية، تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، جهدًا كبيرًا فى تطوير البنية التحتية، ومشروعات الطاقة، واستصلاح الأراضى، وتطوير الصناعة، وتطوير العشوائيات، وتوفير الإسكان الاجتماعى لقطاعات عريضة من السكان، وإتاحة شبكة حماية اجتماعية متكاملة للفئات الأكثر احتياجًا، وتطوير خدمات الصحة، مع تقديم مبادرات ناجحة فى القضاء على الأمراض المُزمنة، والتوسع فى إنشاء الجامعات والمدارس، والعمل على تقديم نوعية جيدة من التعليم، وتقديم مبادرات تنموية كبرى، مثل مشروع «حياة كريمة» لتحسين جودة الحياة فى القرى، ومبادرتى «مئة مليون صحة»، و«تكافل وكرامة».

لعل هذا التحدى الذى تمضى فيه الدولة المصرية بكل قوة يرتبط تفاعليًا بالتحدى الثانىالذى خلقته الأزمة الاقتصادية العالمية، التى ارتبطت بدايةً بتداعيات جائحة كورونا، ثم ما ترتب عليها من نتائج سلبية على الاقتصاد العالمى، ولّدتها الحرب الروسية-الأوكرانية، وما تبع ذلك من تعطل لحركة الأسواق العالمية، والتسبب فى زيادة غير مسبوقة فى الأسعار، أثرت فى مستوى العرض لسلع بعينها، بما أوجد مهددات التضخم والركود على مستوى العديد من الاقتصادات الوطنية فى العالم، الأمر الذى كانت له ارتداداته الحتمية على أسواق المال وأسعار العملات.

تتعاظم التهديدات التى تجابه مسيرة التنمية عندما نتعرف على التحدى الثالث، الذى يرتبط بالصراعات التى يشهدها الإقليم، الذى تقف مصر فى قلبه، ولا تَخْفى علينا جميعًا الصراعات والحروب التى تنشب هنا وهناك فى كل الاتجاهات، التى كان آخرها الحرب غير العادلة التى تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية، حيث تبذل الدولة المصرية جهودًا كبيرة فى مواجهة هذه التحديات الإقليمية، وتلعب دورًا بارزًا فى الدعوة إلى السلام والوئام، وتبذل قصارى جهدها لوقف الحرب فى غزة، والعمل على قيام دولة فلسطين المستقلة. وقد كان لهذه الحرب تداعياتها الشديدة السلبية على موارد الاقتصاد المصرى، وعلى رأسها إيرادات قناة السويس، والتهديدات الحالية لحركة التجارة الدولية فى منطقة البحر الأحمر. ولعلنا، لأول مرة فى التاريخ، نجد أن الاتجاهات الاستراتيجية الحيوية لمجالات الأمن القومى المصرى الأربعة الرئيسية مشتعلة بالصراعات والأزمات والحروب، وهى تحديات تجابهها الدولة المصرية بالنظر لموقعها، وتتفاعل معها بحكم دور الدولة المسئولة التى لم تتخل يومًا عن مساندة أشقائها الأفارقة والعرب.

من هنا، أكد د. مدبولى أن الحكومة تهدف إلى العمل على أربعة محاور رئيسية، هى: حماية الأمن القومى وسياسة مصر الخارجية، وكذلك بناء الإنسان المصرى وتعزيز رفاهيته، بالإضافة إلى بناء اقتصاد تنافسى جاذب للاستثمارات، وأخيرًا تحقيق الاستقرار السياسى والتماسُك الوطنى.

لا ينبغى أن يفوتنا مغزى وجود الأمن القومى والسياسة الخارجية على رأس محاور عمل الحكومة خلال السنوات الثلاث المقبلة، لما له من دلالة واضحة تؤكد وجود هيمنة حاكمة له على باقى المحاور، ستتم ترجمتها فى برامج عمل تشاركية بين الوزارات والجهات المعنية، تنتج فى النهاية حزمًا من السياسات العامة التى تخدم على هذا المحور. يتضمن المحور الأول، المعنىِ بحماية الأمن القومى وسياسة مصر الخارجية، العمل على تحقيق الأمن القومى بمفهومه الشامل، بما يضمن حماية أمن واستقرار الحدود، ودعم القدرات العسكرية لجيشنا فى مواجهة التهديدات، وتعزيز أمن البحر الأحمر وقناة السويس، وتعزيز جهود مكافحة الإرهاب والجرائم العابرة للحدود والاتجار بالبشر، فضلًا عن تطوير السياسة الخارجية لمصر، وتعزيز دورها فى محيطاتها العربية والإفريقية والدولية، بالإضافة إلى تعزيز مشاركتها فى المنظمات الدولية.

يتوقعأن تواصل الدبلوماسية المصرية جهودها فى مُختلف المحافل الدولية ذات الصلة بمكافحة الإرهاب، لا سيما فى إطار الأمم المتحدة، وتطبيق مقاربة شاملة لمكافحة الإرهاب، تشمل كذلك مختلف المحاور الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والفكرية والثقافية والتعليمية، والتنسيق مع مختلف الأطراف الدولية لمكافحة الإرهاب والوقاية منه، وبناء قدرات الدول فى هذا المجال، خاصة مع بروز دور الفاعلين من دون الدول (Non-stateactor)، وما تمارسه من عمليات عسكرية وأخرى إرهابية، تمثل تهديدًا رئيسيًا لسيادة الدولة الوطنية، التى يمثل الحفاظ عليها أولوية وركيزة رئيسية للسياسة الخارجية المصرية.

فى سياق مرتبط، من المؤكد أن تستمر مصر فى تعزيز علاقاتها العربية، سواء مع دول الخليج أو مع دول المشرق والمغرب العربى، وكذلك دول الجوار الجغرافى، على المستوى الثنائى وعبر جامعة الدول العربية، اتصالًا بالأهمية الاستراتيجية لتلك العلاقات، وباعتبارها صمام أمن للمنطقة وشعوبها ككل، وبهدف صون الأمن القومى العربى، والإسهام- قدر المستطاع- فى تشكيل توازنات إقليمية والاضطلاع بأدوار الوساطة، بما يؤدى إلى ترسيخ دور مصر الريادى كفاعل رئيسى فى المشهد الإقليمى وشريك استراتيجى مؤثر على صعيد التفاعلات الدولية.

من المؤكد أيضًاأن تستمر مصر فى توسيع دائرة التعاون مع الدول الإفريقية الشقيقة، ومد جسور التواصل الحضارى مع شعوبها كافة، وكذلك تفعيل دور القوى المصرية الناعمة بالقارة، والانخراط بفاعلية فى صياغة وتطوير مبادئ وآليات العمل الإفريقى المشترك، تحقيقًا للمنفعة لجميع الدول الإفريقية، فيما يتعلق بالقضايا المحورية التى تمسها، خاصةً الملفات التنموية وملفات صون السلم والأمن فى إفريقيا. فالحفاظ على السلم والأمن فى ربوع إفريقيا كان ولا يزال على رأس أولويات مصر بقيادة الرئيس السيسى، حيث تلعب القاهرة دورًا كبيرًا وتبذل جميع الجهود لحلحلة الأزمات القائمة، ومن بينها الأزمة الليبية والوضع فى السودان. فقد حرصت مصر على وضع عناصر عديدة متكاملة ومتناغمة لضمان إعادة تمركزها فى الحاضن الإفريقى للأمن القومى المصرى، ليس فقط استنادًا إلى التاريخ والجغرافيا فحسب، وإنما بترسيخ أسس للتعاون بين القاهرة والدول الإفريقية الشقيقة على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والشعبية والإنسانية، وظفت فيه مصر، وستستمر، جميع إمكانياتها وعلاقاتها الدولية، من أجل النهوض بالقارة الإفريقية بأسرها وتحقيق التنمية التى تنشدها شعوبها، تأسيسًا على أنها «صوت الجنوب» الذى يبحث عن تحقيق «المكسب للجميع». فالانتماء المصرى للقارة الإفريقية كان وسيظل فى صدارة دوائر السياسة الخارجية خلال عهد الرئيس السيسى.

من جهة أخرى، ستسعى مصر لتعظيم الشراكات الاستراتيجية الدولية وتعظيم دورها فى التجمعات الدولية، سواء المنظمة الأممية وهيئاتها ووكالاتها المختلفة، وكذلك المنظمات القارية، أو التجمعات التى شرفت مصر بعضويتها على مدار التاريخ الحديث، أو التجمعات التى انضمت لها حديثًا. إذ يُعزز الوجود المصرى الفعال فى هذه التجمعات والتحالفات الدولية، عبر ممثليها، من موقفها على الساحة العالمية، بما يتيح فرصًا جديدة للتعاون فى مختلف المجالات الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية، وذلك بهدف دعم برنامج التنمية المستدامة على المستويين الوطنى والإقليمى، وتحسين الاقتصاد الوطنى، وتوفير فرص عمل جديدة، والإسهام فى تبادل الخبرات والتكنولوجيا، وتعزيز القدرات الوطنية لمواجهة التحديات العالمية المتزايدة.

«الاتزان الاستراتيجى».. إطار حاكم للسياسة الخارجية المصرية

يعد كل ما سبق بمنزلة استراتيجية مكتملة الأركان، يتم تنفيذها، فى ظل الحرص الشديد على التمسك بتطبيق سياسات «الاتزان الاستراتيجى»، تلك التى تنتهجها الدولة المصرية كمبدأ ثابت، يعد «العلامة الوطنية»للسياسة الخارجية المصرية فى «الجمهورية الجديدة»، وهو مبدأ يتعاظم تأثيره فى كل من التقدير الدولى والإقليمى للدور المصرى فى التفاعل مع قضايا الإقليم والعالم، فى ظل حالة الاستقطاب الدولى والضغوط لتشكيل تحالفات تزيد من تعقيد وتشابكات التفاعلات الدولية بما يطيل أمد الصراعات والأزمات والحروب، بل ويهدد بتوسعها. لذا، ستظل مصر حريصة على مواصلة دورها الرائد فى إطار النظام المتعدد الأطراف كشريك ووسيط يحترمه الجميع، فى ظل الالتزام الكامل بأحكام القانون الدولى وما صدر من قرارات عن المنظمات الأممية والقارية التى تنتمى لها الدولة المصرية. فمصر حريصة على أن تكون تحركاتها فى ظل الاحترام الكامل لهذه القوانين والقرارات، ولعل هذا الأمر أكسبها مصداقية واحترام الجميع. من ثم، فمن المؤكد أن تستمر مصر فى العمل من خلال المنظمات الدولية والقارية والإقليمية، للدفاع عن مصالحها الوطنية فى المحافل الدولية، بما يكفل تحقيق «المكسب للجميع».

فى سياق ما تقدم، فإن المحور الرئيسى الفرعى الأول من برنامج الحكومة يشمل العمل على تحقيق حماية أمن مصر المائى من خلال تعزيز التعاون الثنائى مع دول حوض النيل والقرن الإفريقى، وعدم التفريط فى حصتها من مياه النيل، التى تمثل شريان الحياة لكل المصريين، من خلال تقليل الفاقد من المياه، وترشيد استخدام مياه الرى، وحماية الموارد المائية من التلوث، فضلًا عن الأمن الغذائى وزيادة المخزون من المحاصيل الاستراتيجية، ورفع جودة المنتجات الزراعية، وتنمية الثروة الحيوانية والداجنة والسمكية. يَتضمَّن هذا المحور أيضًا أمن الطاقة من حيث تأمين وتنويع موارد الطاقة التقليدية والمتجددة، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة والبنية التحتية، وتطوير شبكات نقل وتوزيع الطاقة, بما فيها الشبكات الإقليمية مع دول الجوار، مع تعزيز مكانة مصر كمركز إقليمى للطاقة، وتطوير الثروة المعدنية والبترولية وصناعة البتروكيماويات. يهدف المحور كذلك إلى تعزيز الأمن السيبرانى، والأطر التنظيمية والتشريعية، والتعاون الدولى فى مجال الأمن السيبرانى، فضلًا عن تعزيز القوة الناعمة لمصر، وصورتها الدولية، والأداء المصرى فى مجالات الثقافة والإعلام والاتصال.

يمكننا القول إن عوامل، كالطبيعة الجغرافية واعتبارات الهُوية والتاريخ، أنتجت دائرتين حاكمتين لتحرك السياسة الخارجية المصرية لصون الأمن القومى، هما:

1- الدائرة العربية:فالأمن القومى المصرى يرتبط بأمن محيطه العربى، لذا تسعى مصر دائمًا إلى استخدام كل أدواتها الدبلوماسية لتعزيز التضامن العربى كخطوة أساسية لتوحيد الموقف العربى، وتمكين الأمة العربية من تعبئة طاقاتها ومواردها، لمواجهة الأخطار والتحديات المتجددة، وعلى رأسها بالطبع تطورات الأوضاع فى الأراضى الفلسطينية، من جراء حرب الإبادة التى تشنها قوات جيش الاحتلال، وفى ظل الرفض الواضح من رئيس حكومة الاحتلال، الذى يمثل رأس حربة التطرف للامتثال، لكل الجهود الإقليمية والدولية والمنظمة الأممية التى تهدف للتوصل إلى اتفاق للهدنة ووقف الحرب التى تدخل هذا الشهر عامها الأول، دون أن يتمكن من تحقيق أى من أهدافه.

2- الدائرة الإفريقية: تسعى مصر، كما أشرنا، إلى توطيد علاقاتها بدول القارة الإفريقية من جميع النواحى الاقتصادية والثقافية والتاريخية، مع إعطاء أولوية خاصة لدول حوض النيل، باعتبارها عمقًا استراتيجيًا، والعمل على التضامن مع الشعوب الإفريقية كافة فى مسيرتها نحو عملية التحول الديمقراطى وتحقيق التنمية الشاملة وتفعيل الشراكة المتعددة الأطراف والعناصر، كما تبذل الدولة المصرية جهودها للحد من انتشار الإرهاب فى منطقة القرن الإفريقى أو فى منطقة الساحل والصحراء.

تدعم مصر هاتين الدائرتين للتفاعل مع باقى دوائر سياستها الخارجية فى آسيا وأوروبا، ومع باقى القوى الفاعلة فى النظام الدولى، بهدف تحقيق التوازن الاستراتيجى المنشود فى إدارة تفاعلاتها الدولية، من خلال تطوير شراكاتها الاستراتيجية مع الصين وروسيا والولايات المتحدة وألمانيا واليابان والاتحاد الأوروبى. أيضًا، تسعى مصر إلى المزيد من الانفتاح وتطوير وتعميق التعاون مع قوى كبرى وأخرى صاعدة فى النظام العالمى، كما حدث فى الآونة الأخيرة من تطور لافت فى العلاقات المصرية- التركية، عقب الزيارة التاريخية للرئيس السيسى إلى أنقرة، التى سبقتها زيارة مماثلة للرئيس التركى رجب طيب أردوغان للقاهرة، وهو التطور الذى فرضته تداعيات الصراع الجيو-استراتيجى الكبير فى العالم والإقليم. يجب فهم كل هذه التطورات، أخذًا فى الحسبان أن أى شراكة جديدة لا تُمثل بديلًا عن الشراكات القائمة، وإنما تعنى فتح آفاق جديدة للتعاون بين مصر والدول الأخرى، فى ظل الحرص المصرى الكامل على تطبيق مبدأ «الاتزان الاستراتيجى» فى إدارة ملفات سياساتها الخارجية، وبتعاون كامل بين الوزارات والمؤسسات والجهات المنوط بها تنفيذها، تطبيقًا لتكليفات الرئيس السيسى.

أهداف مبدأ «الاتزان الاستراتيجى»

من هنا، يهدف مبدأ «الاتزان الاستراتيجى» الذى تنتهجه الدولة المصرية فى ظل حالة الاستقطاب الدولى البارز فى تفاعلات النظام الدولى -عبر تفعيل علاقاتها العربية والإفريقية على المستوى الثنائى والجماعى- إلى تخفيض حدة التجاذبات الدولية مع سائر الدول فى بقية الدوائر التى تتحرك فيها وزارة الخارجية والمؤسسات والجهات المنوط بها تنفيذ سياسات هذه الاستراتيجية، وصولًا لهدف تجميدها، ومن ثم تصفيرها من جانب، بما يحفظ لمصر القدرة على المشاركة بفاعلية فى صياغة ترتيبات أو قواعد النظام الدولى الآخذ فى التغير، الذى هو فى الوقت نفسه فى طور التشكل من جانب آخر، وذلك، كما أشرنا، مع مواصلة التمسك بالتوجهات الراسخة فى هذا الصدد، من حيث احترام ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة، وعدم تسييس الملفات الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية داخل المؤسسات والهيئات الأممية، والمبادئ الثابتة من قضايا نزع السلاح النووى والإرهاب، بالإضافة لحتمية الوصول لحل الدولتين كآلية لازمة لتسوية القضية الفلسطينية، ومن ثم الصراع العربى-الإسرائيلى، بما يحقق الأمن والاستقرار فى محور من أهم محاور التجارة العالمية، ويفتح آفاقًا جديدة للتعاون الإقليمى والدولى.

تسعى مصر إلى بناء علاقات متوازنة ومستدامة، سواء على المستوى الدولى أو الإقليمى، وكذلك الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى والأقطاب الدولية، مع العمل على فتح مسارات جديدة للتحرك، بما يخدم المصلحة الوطنية المصرية، فضلًا عن استمرارها فى التشاور مع جميع الدول والمنظمات بشأن عملية إصلاح الأمم المتحدة عمومًا، وتوسيع مجلس الأمن خصوصًا، وزيادة تمثيل الدول النامية فيه، بما يحقق التمثيل الجغرافى العادل من ناحية، وديمقراطية صنع القرار الدولى من ناحية أخرى لخدمة مصلحة دول الجنوب، التى باتت من الدوائر المهمة لتحركات القائمين على تنفيذ السياسة الخارجية المصرية، فيما يعرف بتعاون الجنوب-الجنوب.

بالتوافق مع ما سبق، من المؤكد استمرار التزام مصر بنهجها فى العمل الرائد فى إطار النظام المتعدد الأطراف، والعمل من خلال المجموعات السياسية والإقليمية للدفاع عن المصالح الوطنية والقومية المصرية فى المحافل الدولية، والتصدى لمحاولات تقويض الإطار المتعدد الأطراف وعدم احترام القرارات الصادرة عنه.

فى إطار دعم جهود الدولة الاقتصادية، يصبح الأمر حتميًا فى ضرورة الدفع نحو اتخاذ المجتمع الدولى خطوات بناءة لإصلاح الهيكل المالى العالمى، وتطوير نظام التمويل الدولى، والجدولة العادلة لديون دول الجنوب، بما يتناسب ومقدار الضرر الذى أصابها من أزمات دولية وإقليمية لم تكن هى المتسببة فيها، وذلك بما يمكن الدول النامية من استعادة وتيرة تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وبناء القدرة على الصمود المرن أمام أية أزمات دولية مقبلة. وسيكون ذلك من خلال تيسير نفاذ الدول النامية إلى التمويل التنموى، فضلًا عن تعظيم قدرة المؤسسات المالية الدولية على توفير التمويل الميسَّر، بالتوازى مع استحداث آليات شاملة ومستدامة لمعالجة إشكالية الديون فى كل من الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع شركاء التنمية لمبادلة الديون، والأخيرة هى التجربة التى يمكن أن تنتهجها الدبلوماسية المصرية بكل ثقة، تأسيسًا على ما تم إنجازه من استثمار كبير فى البنية التحتية والعدد الكبير من المناطق اللوجيستية والصناعية والزراعية التى تم ربطها بأكبر شبكة نقل تجارى حديثة.

لـــذا، دائمًا ما يؤكد الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى العديد من المناسبات، ضرورة بذل الكثير من الجهود من أجل تأهيل البنية الأساسية التى تمكن الدولة من الانطلاق إلى آفاق أفضل، وجاءت آخر تصريحاته فى هذا الشأن، عند تفقد سيادته الأكاديمية العسكرية المصرية، يوم الخميس 14 مارس 2024 حيث أشار إلى: «أنه إذا توقفنا عن التنمية والتطوير، فسنكون بذلك نخالف الواقع الموجود حولنا».

التنمية المستدامة وتحديات المستقبل..نمذجة الدور المصرى

تعميقًا للتجربة المصرية فى تحقيق -والتوافق مع- مستهدفات التنمية المستدامة، فقد شهدت السنوات العشر الماضية الكثير من الجهد والدأب فى كل المجالات، تحركات فى كل محافظات الجمهورية، ومشروعات عملاقة، ولم يتم التوقف عند إعادة تأهيل ما كان قائمًا، بل هو توسع مخطط وممنهج لمشروعات التنمية والتعمير بهدف إرساء دعائم الجمهورية الجديدة، الأمر الذى ترتب عليه إحداث نقلة نوعية تاريخية فى  مختلف قطاعات الدولة بين الاقتصاد والعمران والتنمية والمرافق والصحة والطاقة والصناعة، وتأسيس آلاف المشروعات الجديدة. جاء ذلك ليقين القيادة السياسية بأن البنية التحتية هى العمود الفقرى للتنمية المستدامة للمجتمعات، والاهتمام بها يساعد على جذب الاستثمارات. من هذا المنطلق، كان اتجاه مصر نحو التحول لاستراتيجيات التنمية المستدامة من خلال الخطط الاستراتيجية التى ركزت عليها.

من المؤكد أن تتبنى الحكومة الجديدة توجهًا لوضع تشريعات جديدة لازمة، تنتج سياسات مبتكرة لتنمية وتوطين الصناعات، من خلال تقديم حزم متنوعة وجديدة من محفزات الاستثمارات لتشجيع جذب المؤسسات المحلية والأجنبية، للتوجه صوب هذه المجمعات الصناعية والزراعية والتجارية، ومن الضرورى أن يشمل ذلك عملية التمويل، وكذا التدريب الكفء للعمالة، وإيجاد برامج تحفيز التصدير.

يحقق جميع ما سبق الهدف من السياسة الخارجية التى ستعمل الجهات المعنية على تنفيذها ملتزمة باستراتيجية ومبدأ «الاتزان الاستراتيجى»، باعتباره الغاية التى تسعى مصر إلى تحقيقها فى البيئتين الدولية والإقليمية. ويتضمن جميع ما سبق ما حدده أساتذة السياسة الخارجية من ترتيب لأهداف السياسة الخارجية، حيث من المتوقع أن تشهد الفترة القادمة تحركات بدأ بعضها بالفعل، حسب المعيار الآتى:

1- أهداف بعيدة المدى

تعكس رؤية معينة لبنية النظام الدولى، والنظام الاقتصادى الدولى، والنظام الإقليمى، وتمثل البناء النظرى الذى يشتمل على الاستراتيجية والسياسات المنبثقة منها اللازمة لتحقيق المصلحة الوطنية والقومية المصرية.

2- أهداف متوسطة المدى

تتناسب مع ما يقع من أحداث متغيرة فى البيئة الخارجية للدولة، ويجب على الدولة التفاعل معها، لكن فى ظل الالتزام باحترام قرارات الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولى، بما يساعد، كما أوضحنا، على بناء النفوذ السياسى الفعال فى العلاقات الخارجية، والقيام بدور متميز فى البيئتين الخارجيتين، الإقليمية والدولية، بما يخدم المصالح العامة للدولة.

3- الأهداف المحورية

هى الأهداف التى يساوى تحقيقها وحمايتها وجود الدولة أو النظام ذاته، بحيث قد تكون علة وجود الدولة، أى أنها الأهداف التى لا يمكن للدولة أن تحيد عنها، وإلا فإن ذلك يحمل تهديدًا وجوديًا لها. يمكننا تلمس ذلك فى مجموعة الخطوط الحُمر التى أعلنت مصر فى أحداث معينة أنه لا يمكن تجاوزها، بما يكفل عدم المساس بالسيادة الوطنية، وحماية الحدود، وصون الأمن القومى، ومن ثم استثمار جميع الإمكانات والوسائل الناعمة والخشنة من أجل الحفاظ عليها وعدم السماح بتجاوزها.

لعل الحرب التى يشنها جيش الاحتلال على غزة هى أبرز مثال على قدرات الدولة المصرية على التحرك والتعامل بحسم وتوازن مرن مع الأزمات والصراعات الإقليمية، وهو أمر لا يحتاج إلى الكثير من الجهد لإدراكه وتفهمه، ويتميز بأنه جهد احترافى يرد عمليًا على الكثير من الادعاءات الجاهلة والباطلة، ومزاعم وأكاذيب غوغائية حول معبر رفح، الذى حرصت مصر على استمرار فتحه طوال الوقت، والضغط لإنفاذ المساعدات الإنسانية بكميات كافية من خلاله، مع الحسم فى مواجهة محاولات التهجير بهدف تصفية القضية الفلسطينية، وكذلك التصدى بكل قوة للأكاذيب التى يرددها رئيس الحكومة المتطرفة، بهدف إعاقة الدور المصرى فى الوساطة الفعالة، التى تهدف دول إقليمية ودولية والمنظمة الأممية من خلالها إلى فرض الهدنة، لبدء التفاوض حول السلام الشامل والدائم والعادل الذى يتبنى السردية الوطنية المصرية فى هذا الشأن، وعلى رأسها حل الدولتين. فى المقابل، هناك دول، وفواعل من دون الدول، تعرضت لهجمات وقصف واغتيالات على أرضها، ولم تشتبك فى صدام أو تفكر فى الرد، فيما تحرص مصر على التمسك بكل الأوراق والمفاتيح، وتملك كل أدوات الضغط الناعم والخشن.

إن جميع ما سبق أشار إليه الرئيس السيسى، فى كلمته خلال حفل إفطار الأسرة المصرية فى رمضان الماضى، وأيضًا خلال حلفه اليمين الدستورية، حيث أكد الاستمرار فى مبدأ «الاتزان الاستراتيجى»، الذى تنتهجه الدولة تجاه القضايا الدولية والإقليمية، وتحدده محددات وطنية تضع فى الاعتبار أبعاد الأمن القومى، والسعى لإقرار السلام الشامل القائم على العدل، ودعم مؤسسات الدول الوطنية، واحترام إرادة الشعوب.

بالنظر لكل هذه الثوابت التى تمثل الأطر الراسخة التى يتحرك من خلالها القائمون على تنفيذ السياسة الخارجية المصرية على الأرض، فإننا نكتشف كيف استطاعت الدولة المصرية الصمود والتعامل بحسم مع كل القضايا، وأيضًا التهديدات والمناورات التى حاول بعض المتربصين من خلالها اختبارها وقياس ردود فعلها على مدى السنوات العشر الماضية، حيث كانت المنطقة من حولنا تشتعل، والتنظيمات الإرهابية تنشط، والفواعل من دون الدول تضرب السيادة الوطنية للعديد من الدول العربية، فى مخطط واسع لإطلاق الفوضى وإسقاط الدول تمهيدًا لسيناريوهات إعادة التقسيم.

نخلص إلى أن الدولة المصرية هدفت، منذ عام 2014، لاستعادة الدافعية، والاتساق فى السياسة الخارجية المصرية؛ التى تمحورت حول بناء القوة الذاتية، واستقلالية القرار، بالإضافة إلى تدعيم مرتكزات المكانة، وإعادة مصر لدوريها العربى والإفريقى، ومكانتها التقليدية فى المنطقة. يضاف إلى ذلك محاولة احتواء مصادر التهديد والعدائيات، وهو ما يتسق مع تبنى مبدأ «الاتزان الاستراتيجى»كإطار حاكم للسياسة الخارجية المصرية، أصبح علامتها الوطنية، الأمر الذى يتماشى أيضًا مع التقاليد الأصيلة للسياسة الخارجية المصرية، ويتيح قدرًا أكبر من المرونة فى التعامل مع القوى الكبرى دون انحياز لطرف على حساب الآخر، ودورًا أكبر فى العمل مع دول الجنوب والتحدث بصوتها فى المحافل الدولية، بما يدعم مطالبها لإنشاء نظام دولى جديد أكثر تعددية وعدالة.

وإذ نخصص ملف هذا العدد من المجلة لمناقشة «قمة المستقبل»، التى انعقدت بمقر منظمة الأمم المتحدة فى الثانى والعشرين والثالث والعشرين من سبتمبر 2024، فإننا لا نجد أفضل من كلمة الرئيس السيسىالتى ألقاها فى الحدث الرئاسى الافتراضى، «نداء عالمى لقمة المستقبل»، يوم الخميس الثانى عشر من الشهر نفسه لتعبر عن الرؤية المصرية. فقد اهتم الحدث الرئاسى الافتراضى بمناقشة مواقف ورؤى الدول المشاركة فى القمة الفعلية، التى تهدف إلى وضع ميثاق دولى للمستقبل، يتناول موضوعات التنمية المستدامة، والسلم والأمن الدوليين، والعلوم والتكنولوجيا والابتكار. وقد تضمنت كلمة الرئيس أهم محاور الموقف الوطنى من موضوعات النقاش فى «قمة المستقبل»، وعلى رأسها إرساء مبادئ القانون الدولى، وإصلاح هيكل النظام المالى العالمى، وتعزيز جهود القضاء على الفقر والجوع، وحماية الأمن المائى لجميع الدول. وأكد سيادته فيها أن «قمة المستقبل»ستنعقد فى ظل أزمات دولية متنامية، سياسيًا واقتصاديًا، خاصة حالة التصعيد الخطيرة بالشرق الأوسط، بما لها من تداعيات سلبية على المستوى الدولى، وهو ما يحتم علينا أن تتضافر جهودنا خلال تلك القمة لتحقيق الأولويات التالية:

أولًا-التمسك التام بتطبيق ميثاق الأمم المتحدة لإرساء نظام قائم على مبادئ وقواعد القانون الدولى دون تمييز أو معايير مزدوجة، وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية لترسيخ استقرار السلم والأمن الدوليين.

ثانيًا-إصلاح هيكل النظام المالى العالمى، وتعزيز مشاركة الدول النامية فى آليات صنع القرار الاقتصادى، وتقوية دور الأمم المتحدة فى الحوكمة الاقتصادية الدولية، بما يسهم فى تسهيل حصول دول الجنوب على التمويل اللازم لتحقيق التنمية المستدامة، فضلًا عن معالجة أزمة الديون التى تتراكم على الدول النامية، من جراء أزمات عالمية لم تتسبب فيها تلك الدول.

ثالثا-تعزيز جهود القضاء على الفقر والجوع على المستوى العالمى، ومواجهة تحديات الأمن الغذائى التى تتفاقم نتيجة عوامل متعددة، على رأسها ندرة المياه، سواء لأسباب طبيعية أو مصطنعة، الأمر الذى يتطلب تعاونًا دوليًا للوفاء بحق الجميع فى النفاذ للمياه، واحترام القانون الدولى فى إدارة الأنهار العابرة للحدود لضمان تحقيق التوافق بين الدول المعنية، وعدم وقوع أضرار على أية دولة.

كلمــة حملت ولخصت بعبارات مجددة وواضحة كثيرًا من المواقف الراسخة والسياسات الرشيدة التى تنتهجها مؤسسات وأجهزة الدولة المصرية، فى إطار تثبيت الصورة الذهنية للعلامة الوطنية المصرية، التى تهدف للتنفيذ الدقيق لمبدأ «الاتزان الاستراتيجى»، وصولًا لتحقيق مبدأ «المكسب للجميع»، وهو الهدف الأسمى الذى يجب أن تسعى إليه القوى العاقلة فى العالم.

طباعة

    تعريف الكاتب

    أحمد ناجي قمحة

    أحمد ناجي قمحة

    رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية